

تعليق على غلاء الدولار ووضع الليرة…
شربل جريج | ٢٨ نيسان ٢٠٢٠
سمعت في الفترة الماضية الكثير من التحليلات البعيدة عن الواقع، والّتي يدلّ بعضها على عدم فهم الركائز المالية الأساسية. فالمال وسيلة تبادل، أمّا قبل المال، فقد كان التبادل من نوع مختلف. فإذا كنت تزرع الطماطم وكان جارك خبّازاً وجارك الثاني مربّي دجاج، فستعطي الطماطم للخباز لتحصل منه على الخبز ولمربّي الدجاج للحصول على البيض، وهكذا تستمر الدورة الاقتصادية. ويهدف المال إلى تسهيل هذا التبادل إضافةً إلى نقل البضائع والحصول على بعض الخدمات مثل الاستشفاء أو التعليم. وقد ظهر مفهوم تبادل العملات منذ زمن طويل، فقد كانت لكل دولة عملتها، وكانت الدول بحاجة إلى طريقة للتبادل التجاري؛ ومن هنا ظهر مفهوم سعر الصرف. فعندما كنت تريد بيع الطماطم مثلاً، كان لها سعر معين محكوم بمعادلة بسيطة: مدى استعداد الشاري للدفع والبضاعة الموجودة عند منافسيك. فإذا كنت تبيع الكيلو ب1000 ليرة وكان غيرك يبيعه ب750 ليرة (على افتراض أن الجودة هي نفسها)، فلن تتمكن من البيع طالما تمكن البائع الآخر من تلبية الطلب. وإذاً كان فهم مبدأ سعر البضائع سهلاً، فهو لأنه محكوم بالعرض والطلب بشكل بسيط. أما سعر العملات، فقد يكون محفوفاً بالمزيد من الغموض.
فإذا ما أراد اللبناني الشراء من بائع في اليونان، ينبغي عليه أن يشتري أوراقاً نقدية باليورو حتى يتمكن من شراء البضاعة اليونانية؛ وإذا أراد شارٍ آخر بضائع من تركيا، فسيكون عليه أن يشتري أوراقاً نقدية بالليرة التركية. وكذلك يتم شراء الكثير من المواد، مثل القمح والمحروقات، بالدولار الأميركي. وبالمثل، يكون على الشاري غير اللبناني شراء أوراق نقدية بالليرة اللبنانية إذا ما أراد أن يشتري بضائع لبنانية.
تجدر الإشارة إلى أنني خصصت بالحديث “البضائع” مثل الطماطم والخبز بشكل مباشر بغرض تبسيط الأمور؛ مع العلم أنّ سائر الخدمات، مثل السياحة والتعليم والاستشفاء والخدمات المصرفية والمالية والتأمين، تندرج ضمن الدورة الاقتصادية وتساعد على تقوية سعر صرف العملة الوطنية.
أما في حالة لبنان على مدى العقود الماضية، فقد ثبّتت السياسة النقدية سعر الصرف؛ إذ كان مصرف لبنان يشتري الليرة اللبنانية ويضخ الدولار من احتياطه لتثبيت سعر الليرة على سعر أغلى من قيمتها الحقيقية. وقد وصلنا اليوم بطبيعة الحال إلى مكان لا يستطيع فيه مصرف لبنان تثبيت سعر الصرف بالطريقة التي كان يتبعها في الماضي، فليس لديه ما يكفي من الاحتياطي لشراء الليرة من السوق والتخلي عن دولاراته. ونتيجةً لذلك، بدأ المصرف في اتّباع سياسات تعسفية على غرار تحديد سعرين أو ثلاثة لليرة والحجز على أموال المودعين. أمّا أكثر هذه السياسات إجحافاً، فهي إجبار السحوبات على السعر الرسمي عندما يريد المودعون سحب أموالهم، حيث كان المصرف يقتطع نصف هذه الأموال فعلياً. وبالطبع، فليس من السهل في ظل كل هذه التدابير التعسفية معرفة قيمة الليرة الحقيقية مقابل الدولار بفعل التعطيل المتعمد لكافة الآليات الطبيعية لتكوين الأسعار. وفي ظلّ الوضع الراهن، يبدو أن مصرف لبنان يميل إلى تحرير سعر الصرف، وإن بالتدريج. هكذا يتأقلم السوق مع كل تعميم صادر عن المصرف، ما ينعكس بالتالي على سعر الصرف.
وبالطبع، ليست مشكلتنا مع مصرف لبنان في قراراته وتعميماته فحسب، بل في حجم الكتلة النقدية، أي كمية الليرة اللبنانية الموجودة في السوق، والتي يمكن لمصرف لبنان التلاعب بها كيفما شاء. وبطبيعة الحال، فكل ما زادت كميات الليرة اللبنانية في السوق دون أن يزيد الإنتاج اللبناني الجالب للعملات الأجنبية، اضطر اللبنانيون إلى دفع المزيد من ليراتهم لشراء الدولار، ما يؤدي إلى انهيار الليرة.
هكذا، نرى اليوم أن ثمة عاملين يؤثران على سعر الليرة: أولهما التعميمات الصادرة عن مصرف لبنان في اتجاه تحرير سعر الصرف، وثانيهما، وهو الأهم والأقوى، كم الليرات التي يضخها مصرف لبنان في السوق المالي اللبناني. ويشكِّل ضخ الليرة في السوق سياسة خطيرة تؤدي في المدى المنظور إلى إفقار اللبنانيين.