“لا رزق لك بيننا”… سطوة الأحزاب اللبنانية تتحكم بمعيشة الناس
رصيف 22 | ٢٢ شباط ٢٠٢٢
“في أحد الأيام، نزلتُ صباحاً كالعادة لأفتح متجري، فوجدت صورة (أمين عام حزب الله) حسن نصر الله معلّقة على باب المحل، وبجانبها قدّاحة وورقة كُتب عليها: الحساب قرّب”، يروي محمود شعيب.
محمود (42 عاماً) هو أحد أبناء بلدة الشرقية، في قضاء النبطية، المنطقة التي تُعتبر معقلاً لحزب الله بشكل أساسي. في فترات متفرّقة، على مدار السنوات الماضية، كانت تصله “رسائل” بعدم الرضى عن مواقفه المعارِضة للثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل. ولكن بعد بدء الانتفاضة اللبنانية في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانخراطه في الحراك المعارض للسلطة وأحزابها الطائفية، اختلف شكل التضييقات “نوعياً”.
تحوّل الترهيب من مجرد “رسائل” شفهية إلى تهديدات واضحة، كما جرى في القصة التي رواها عمّا جرى معه في متجره الذي كان يفتتحه في بلدة الدوير، بجوار قريته، ويبيع فيه أدوات كهربائية ومعدّات صناعية، “فقط لأنني أخالفهم الرأي”.
وصلَت الرسالة. وليكفّ الشر، كما يُقال، نَقل محمود متجره إلى بلدة أخرى قريبة في المنطقة نفسها، هي “تول”، خاصةً أنه يرفض الخضوع للتهديدات وتغيير مواقفه السياسية، كما يقول لرصيف22. لكن حتى مرونته هذه لم تشفع له.
بالقرب من متجره الجديد، يروي أنه تعرّض لـ”كمين مدبّر”. يقول: “كنت أقود الدراجة ورأيتُ سيارة مسرعة تتجه نحوي وتسلك مسرب اليسار، أي عكس السير. حاولتُ أن أتفاداها إلا أن السائق ظل يتجه نحوي فرميت نفسي عن الدراجة فصدمها قبل أن يتوارى سريعاً”.
السيارة التي صدمت الدراجة، بحسب روايته، لم تكن عليها أي لوحة، وزجاجها داكن. أصيب بجرح بالغ في رأسه ورضوض في جسده، وفُتح تحقيق بعد أن تقدّم بادّعاء أمام النيابة العامة في النبطية، إلا أن شيئاً لم يحصل، وهذا ما كان يتوقعه. “في هذه المنطقة، لا شيء يصل إلى نتيجة. هم يملكون كُل شيء”، يعلّق.
ولكن أساليب “المعاقبة” التي يمتلكها كل حزب سياسي مهيمن على منطقة معيّنة كثيرة، وتطال محمود الآن. محلّه في “تول” لا يزال يعمل ولكن حركة مبيعاته لا تُقارَن بما كانت عليه سابقاً، ما تسبب له ولأسرته بمعاناة اقتصادية. كلمة السر هنا: المقاطعة. كذلك، لا يزال يتعرض لضغوطات ولكنّه يحاول الصمود. “أنا لن أتنازل”، يقول.
يربط النظام الزبائني اللبناني المواطنين به عبر سلسلة من التقديمات والتسهيلات والوظائف، وبالتالي يتحكّم الحزب السياسي النافذ في منطقة معيّنة أو مؤسسة معيّنة بكل ما ترتبط حياة الناس به، بحسب أستاذة الدراسات المُدُنية والعلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت منى حرب.
وبالإضافة إلى النفوذ الذي تمنحه المنظومة الزبائنية للأحزاب بشكل رسمي، تتنوع أدوات الضغط غير الرسمية التي تمتلكها هذه الأحزاب وتستخدمها. تشير حرب إلى أن “أي حزب في أي منطقة خاضعة لنفوذه يقوم بنوع من التهديد لكل مَن يختلف معه، ورأينا ذلك في أكثر من مناسبة، وليس أدل على ذلك مما قام به حزب الله على سبيل المثال في ما خص محلات بيع الكحول في مناطقه”.
تتحدث حرب أيضاً عن “أسلوب المقاطعة وبث الإشاعات، وهذا ليس بجديد بل عائد إلى الحرب الأهلية، والناس تتأثر بالكلام وبما تروّجه الجهة الفاعلة في المنطقة حول موضوع معيّن أو شخص معيّن أو مؤسسة معيّنة”.
وتضيف: “هناك نوع من الإرهاب الممارس من قبل هذه الأحزاب، وبطبيعة الحال يصير من الصعب على الناس أن تخرج من الشبكة الاجتماعية التي ينسجها الحزب في بيئته، فالخروج يعني خسارة محفزات، هذا فضلاً عن وضع الخارج نفسه في مواجهة الشبكة الاجتماعية التي تتكون من الناس التي تنضوي في نهاية المطاف في الإطار الذي حدده الحزب لها”.
مصالح الأحياء ملك “الأقوى”
راني (اسم مستعار)، شاب يبلغ من العمر 38 عاماً ويُقيم في وطى المصيطبة، في بيروت، وهي منطقة يغلب على قاطنيها المكوّن الدرزي، قرر مع شقيقه في عام 2003 العمل في مجال توصيل خدمة الإنترنت إلى المنازل، وكان الطلب عليها عالياً وكان العمل في المجال وقتها مصلحة مربحة جداً. وبالفعل، بدآ بتمديد الأسلاك لتوصيل هذه الخدمة إلى طالبيها من أبناء الحيّ الذي يقطنان فيه، وراحت مصلحتهما الصغيرة تكبر شيئاً فشيئاً.
لم تستمر فرحة النجاح طويلاً. سرقها منهما الحزب التقدمي الاشتراكي. يقول لرصيف22: “بعد عدة أشهر من العمل، وصل إلى شقيقي محضر دعوى قضائية تزعم أن ما نقوم به مُخالف للقانون جراء الأسلاك التي مددناها لإيصال الخدمة في الحي، علماً أنه في حينها، لم يكن يوجد أي قانون يفصل في هذا الموضوع، واكتشفنا أن مُقدّم الدعوى هو أحد النافذين في الحزب التقدمي الاشتراكي المسيطر على المنطقة”.
أمام هذا المستجدّ، اضطر الشقيقان إلى التوقف عن العمل. “هم أقوى منّا ولا يُمكن مواجهتهم حتى في القانون”، يقول.
اللافت في هذا السياق، يتابع راني، “أن النافذين في التقدمي أنشأوا مؤسسة كالتي اضطرّينا إلى إقفالها وبدأوا بتوزيع الاشتراكات على الحي، ومنذ ذلك الوقت هم يسيطرون على هذا القطاع ولا أحد يستطيع أن يتدخل أو يحاول الدخول إليه أو مشاركتهم فيه”، ويعلّق بسخرية: “مخالَفة القانون التي لاحقونا بها لم تعد مخالفة حين أمسكوا هم بهذا القطاع الحيوي”.
تفرض أحزاب السلطة سيطرتها على قطاعات واسعة من المصالح الصغيرة الواقعة في مناطق نفوذها، وعادة ما يشكّل ذلك مدخلاً للسيطرة على المقيمين في هذه المناطق، من خلال التحكّم بكل ما يمسّ مباشرة بالناس وعملهم وأمنهم الاقتصادي.
النماذج الفاقعة هي مصالح مولّدات الكهرباء وشبكات الإنترنت والساتلايت المحلية: مَن يشغّلها ينبغي أن يكون من محظيي الأحزاب. يستقطع لعمله نطاقاً جغرافياً بسكّانه، ويُمنع أي شخص آخر من اختراقه.
يصف المستشار الإقليمي في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أديب نعمة المتحكمين بهذه المصالح بـ”مجموعة من العصابات”، ويضيف لرصيف22 أن “هذه العصابات غالباً ما تطلب حماية من أصحاب النفوذ وبالتالي تتحوّل إلى أداة سيطرة وسطوة للحزب الفاعل على حيّ أو منطقة”.
كيف يتجلّى ذلك على أرض الواقع؟ القصص الموثّقة كثيرة: مجموعة واسعة من الشباب تقوم بتقطيع أسلاك شبكة تمديد كهرباء هنا، مجموعة أخرى تغزو أسطح المباني وتكسّر كل الصحون اللاقطة هناك… وكل هذا لا يمكن أن يتم بدون غطاء سياسي/ أمني.
يتحدث الخبير الاقتصادي باتريك مارديني عن مولدات الكهرباء المنتشرة في الأحياء والتي توصل الطاقة إلى المنازل عبر شبكات أسلاك خاصة، وهي قطاع عمل مربح نشأ منذ سنوات كثيرة بسبب ديمومة أزمة انقطاع الكهرباء التي تزوّد مؤسسة كهرباء لبنان المنازل بها، ويتحكّم به أشخاص يحظون بغطاء حزبي وحماية حزبية في منطقة عملهم.
يقول مارديني لرصيف22 إن هذه المولدات “تعمل بطريقة غير شرعية”، ولذلك “يحتاج أصحابها إلى حماية من أشخاص داخل الدولة، وهنا يأتي دور الأحزاب في حماية هذه المصالح التي يستفيدون منها في المقابل، فإذا دخل منافس على حي لتقديم خدمة ذات جودة أعلى وبكلفة أقل، ينزعجون منه ويحاولون التضييق عليه لجعله يترك المنطقة عن طريق التشبيح والزعرنة، وهم يعرفون أنه في حال توجه إلى المخفر فإن الحماية السياسية تودي في نهاية المطاف إلى غلق الملف”.
“نحن (في لبنان) اليوم في نظام مناهبة معمم، بدءاً من الأحزاب المسيطرة على التقسيمات السياسية الكبرى وصولاً إلى شبيحة الأحياء”
حسين (اسم مستعار)، شاب يقيم في أحد أحياء بيروت التي تسيطر عليها حركة أمل. ككثيرين من أبناء حيّه، يشترك في خدمة مولّد كهرباء الحي، وفي ظل ارتفاع سعر المازوت، لم يعد يوفّر تغطيته إلا لستّ ساعات يومياً. ولظرف عائلي، يحتاج حسين إلى الكهرباء دون انقطاع.
تواصَل حسين مع صاحب مولّد في الحي المحاذي لحيّه، وتسيطر عليه حركة أمل أيضاً، يؤمن كهرباء بحدود العشرين ساعة يومياً، لكن صاحب المولد قال له إنه لا يستطيع الدخول إلى حيّه لأنه خارج نطاق عمله.
بعد مساعٍ حثيثة، استطاع حسين أن يمد شريط اشتراك من الحي المجاور، إذ “سمح له” صاحب المولّد في حيّه بذلك مقابل اتفاق قضى بأن يدفع حسين له مبلغ 700 دولار أمريكي كتسوية.
تتعدد طرق استفادة الأحزاب من هذه المصالح المربحة التي تُحتكر في منطقة معيّنة. تشير منى حرب في هذا السياق إلى أن المصالح القائمة في الأحياء والمناطق تكون غالباً بيد حزبيين وتتشابك فيها المصالح العائلية والعشائرية، ومن يعملون بها يكونون أيضاً من الحزبيين الذين في نهاية المطاف يتحوّلون إلى جزء من منظومة يديرها الحزب المسيطر بما يُناسب توجهاته.
بجانب استفادة الأحزاب النافذة الاقتصادية من التحكّم بالمصالح البارزة، قد تتخذ استفادتها من هيمنتها على هذه القطاعات شكل منع وصول قنوات تلفزيونية إلى شريحة واسعة من الناس، لأن هذه القنوات تغرّد خارج الخطاب المقبول من الحزب.
هذا ما حصل مثلاً مع قناة الجديد بسبب خطابها المؤيّد لانتفاضة تشرين والمروّج لها. يكشف مصدر إداري في القناة أن حجبها في ضواحي بيروت الجنوبية أتى على خلفية تعاميم حزبية لمزوّدي خدمة الساتلايت بقطع بث القناة، نتيجة عدم رضى القوى المسيطرة سياسياً في حينها على ما تبثه المحطة، لافتاً إلى أن هذا الأمر هدفه منع تلقي جمهور محدد لأي معلومة تصدر عن الجديد، ولتعميم خطاب الحزب المسيطر.
“الاقتصاد الأسود”
ما ذُكر أعلاه هو النماذج الفاقعة فقط. ولكن تقريباً، كل ما يُنتِج مدخولاً يخضع بشكل أو بآخر لنفوذ الأحزاب، وتالياً لتدخّلاتها، من محطات الوقود وتعبئة الغاز و”السوبر ماركتس” والدكاكين الصغيرة، إلى متاجر الألبسة والأحذية والأدوات الكهربائية ومحلات الحلويات والملاحم والورش الصناعية الصغيرة كورش الميكانيك والنجارة والحدادة… فهذه، وإنْ لم تكن الأحزاب تتحكم فيها بصلافة دائماً إلا أنها تستطيع التضييق على أصحابها والأهم: تستطيع توجيه الأساس الحيوي لوجودها وهو الزبائن عبر ممارسة سلاح مقاطعة المخالفين.
وتُشكّل المصالح الصغيرة شرياناً حيوياً للأحزاب. يصفها الخبير الاقتصادي منير يونس بـ”الاقتصاد الأسود، أي الاقتصاد غير المُفصَح عنه أمام الضرائب، من المولدات الكهربائية وصولاً إلى المحلات الصغيرة كالدكاكين”، ويقول لرصيف22 إن هذا الاقتصاد الأسود “يُشكل ما بين 40 إلى 40% من حجم الاقتصاد الكلّي وهو رقم كبير، فنسبةً إلى لناتج المحلي نحن نتحدث عن سبعة إلى ثمانية مليارات دولار تقريباً”.
يشرح أديب نعمة أن بين 90 إلى 95% من المؤسسات الاقتصادية في لبنان هي مؤسسات صغيرة، تشغّل أقل من خمسة أشخاص، وبالتالي هي الأكبر عددياً، ولكن فعاليتها السياسية غير موجودة. وبفعل اجتماع التجار في جمعيات تجارية فئوية مناطقية يصير استتباع هذه المؤسسات أكثر سهولة على المسيطر سياسياً على منطقة ما.
“تبغي الأحزاب السيطرة على كامل نطاق نفوذها الجغرافي”، يقول نعمة شارحاً أن الاستتباع يتم على أساس المنطقة، “وبالتالي حتى لو لم يكن الموجود في المنطقة ولديه مصلحة كمصنع أو دكان أو أي مصلحة أخرى منتمياً إلى اللون الطائفي الغالب، فهو يتبع للاستتباع الممارَس على الآخرين”.
ويشير نعمة إلى أن “آليات الاستتباع صار لها اليوم طابع قسري عنفي ميليشياوي له علاقة بالنفوذ العسكري أو النفوذ الطاغي الأيديولوجي والنفوذ المصلحي على مستوى الطائفة والقدرة على التوظيف من قبل القطب الطائفي”، وبعد ذلك تأتي عوامل السطوة “المحلية” كسطوة بعض العائلات التي يُسمح بها لأن الأحزاب بحاجة إلى أبنائها لأسباب انتخابية.
ثمن الاعتراض الباهظ
يمتلك طليع السوقي (52 عاماً) دكّاناً صغيراً فتحه قبل 16 عاماً في حي الميدان في مدينة الشويفات، يجلس أمامه في انتظار أن يأتي الزبائن الذين اعتاد على ارتيادهم لدكّانه، لكن قلّة مَن لا تزال تشتري منه. فطليع الذي قرر أن يُشارك في انتفاضة تشرين للمطالبة بالتغيير ومحاربة الفساد، دفع ثمن مواقفه التي لا تتماشى مع الأحزاب الطائفية المسيطرة.
وبلدة الشويفات، في قضاء عالية في محافظة جبل لبنان، يغلب عليها المكوّن الدرزي ويسيطر عليها حزبان هما الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، والحزب الديمقراطي اللبناني بزعامة طلال إرسلان، الأقل تأثيراً في البيئة الدرزية، والذي لا يزال يمتلك تأثيراً ملحوظاً في مناطق محددة منها الشويفات.
في بداية مشاركاته في الحراك التغييري، سمع طليع كلاماً من مقربين ومن أناس كانوا يترددون بشكل يومي على محلّه، وغالبيتهم من الحزبيين أو المناصرين، بأن لديه مصلحة عليه الحفاظ عليها، وبالتالي عليه ألا يُعبّر عن رأيه المخالف “للبيئة”، وكانوا في أغلب الأحيان من التابعين لـ”التقدمي”. لكنه لم يكترث لـ”الرسائل المبطنة” التي كان يسمعها.
بالإضافة إلى النفوذ الذي تمنحه المنظومة الزبائنية اللبنانية للأحزاب بشكل رسمي، تتنوع أدوات الضغط غير الرسمية التي تمتلكها هذه الأحزاب وتستخدمها. “أي حزب في أي منطقة خاضعة لنفوذه يقوم بنوع من التهديد لكل مَن يختلف معه”
يقول لرصيف22: “في أحد الأيام أتى إليّ شخص أعرفه جيداً وينتمي إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وقال لي بكل صراحة: أنت تعلم أننا إذا وضعنا رأسنا برأس أحد ما الذي يُمكن أن نفعله، واعلم تماماً أن بإمكاننا أن نمنع الناس من الدخول إلى محلّك ومقاطعتك بشكل كامل”.
مع الوقت، هذا ما حصل. “كُل الحزبيين اختفوا فجأة وخاصة الاشتراكيين، وبنسبة أقل محازبي الحزب الديمقراطي، فيما تأثر بعض المناصرين ولم يعودوا يأتون إلى المحل كما في السابق”، يروي السوقي الذي يُعيل أسرته من محلّه، لافتاً إلى أن عمله تراجع كثيراً وهو اليوم يتكل على بعض الناس غير الموالين أو المتأثرين بالأحزاب للحصول على قوته اليومي والاستمرار في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ أكثر من سنتين.
الحزب الحاكم لا يحتمل الاختلاف
مضايقات الأحزاب للمقيمين في مناطق سيطرتها لا تطال معارضيها فقط، بل قد تطال محازبين لها بسبب خلافات داخل الحزب.
شربل طوق (43 عاماً)، مهندس زراعي من بلدة بشري. منذ عام 2010، بدأ يتعرّض لمضايقات من الحزب المسيطر في منطقته، أي القوات اللبنانية، بسبب خلافات بينه وبين بعض قادة هذا الحزب، وتحديداً مع ستريدا جعجع، عقيلة رئيس الحزب سمير جعجع.
بدأت الخلافات على هامش انتخابات لإحدى المؤسسات غير الحكومية ذات البعد الإنمائي. اعتبر طوق وقتها أنه من الضروري الفصل بين العمل الأهلي وبين العمل الحزبي، وهذا لم يُعجب جعجع.
طوق “قوّاتي قديم”، لكن رأيه المخالف للقيادة جعله تحت مرمى نيرانها. يقول: “تحوّلتُ بسبب موقفي هذا إلى خائن للقضية وبدأَت عملية مقاطعتي”.
إلى جانت عمله كمهندس زراعي، يمتلك طوق مؤسسة لبيع المنتجات الزراعية، فما كان من قيادة القوات إلا أنْ أوعزت إلى مناصريها بعدم التعامل مع مؤسسته، ما ألحق به ضرراً اقتصادياً كبيراً. ومع الوقت، تصاعدت هذه المقاطعة، خاصة بعد أن عمل في الانتخابات البلدية لعام 2016 في مواجهة لائحة القوّات.
يروي طوق أن أحد القواتيين المقرّبين من ستريدا جعجع نقل إليه أن “الحزب بقي لأشهر يبحث في سجلاتك لاستهدافك والتصويب عليك في حال كنت قد حصلت خلال فترة تحزبك على أي خدمة أو منفعة شخصية، إلا أن ما تبيّن هو أنك أنت من قدّم للحزب وليس العكس”.
يروي طوق أنه تعرض للكثير من التهجّمات الشخصية المبنيّة على تهمة أنه “خائن”، وفي عام 2016، لم يعد استهدافه فردياً بل صار تصويباً على وجهة اعتراضية من قبل بعض القواتيين على الأداء المُعتمد من القيادة.
لم تقف حدود الضغط الحزبي على طوق عند حدود مقاطعة متجره، وهو ما أفضى في النهاية إلى إقفاله التام عام 2019. يقول: “إضافة إلى المتجر، أنا أعمل كمدرب ومستشار في مجال التنمية الزراعية لعدد من المنظمات المحلية والدولية، إلا أن النفوذ الحزبي في بشري دفع أيضاً باتجاه مقاطعتي في مجال التدريب، من خلال الإيعاز للبلديات والمؤسسات المحلية بأن وجودي في أي تدريب قد يخلق بعض المشاكل”.
تروي منى حرب، وهي عملت عن قرب على مشاريع متعددة مع بلديات مختلفة، أن البلديات ليست كلها مشاريع مُربحة للأحزاب، كون نطاق تأثيرها الاقتصادي محدود، ولكن في كثير من الأحيان وخاصة في البلديات الكبيرة التي لديها موارد، تُصبح هذه الإدارات المحلية وكأنها مؤسسة من مؤسسات الحزب المسيطر في نطاقها، ويستخدمها لتوزيع المنافع على الحزبيين.
تشرح أن “هذا الواقع يتمظهر من خلال التلزيمات التي تقوم بها هذه البلديات والتي غالباً ما تُمنح للمحسوبين عليها، أو بالتحديد للحزبيين. كذلك، في مناطق عدّة، تُصبح المساحات العامة التي تُشغّلها البلدات أماكن مخصصة للنشاطات الحزبية”.
تروي من واقع عملها مع بعض البلديات الكبيرة، أن الاجتماعات التي تحصل مع البلدية كثيراً ما تُعقد لدى السياسي النافذ في المنطقة، ما يوضح أن القرارات التي تُتخذ على صعد متعددة، منها المشاريع الإنمائية، تكون بإشراف مباشر من السياسي أو رئيس الحزب المسيطر في النطاق البلدي.
وهنا يُطرح السؤال: كيف تستطيع هذه البلديات مثلاً أن تتحكم بميزانياتها من خارج الأطر الرقابية؟ تقول حرب: “من خلال الشبكات الاقتصادية والمقاولين المنتمين إلى الأحزاب، تصبّ التلزيمات بمعظمها في صالح المحظيين من الحزب المسيطر، بالرغم من أنه في كثير من الأحيان، خاصة في المشاريع الممولة من قبل جهات خارجية، يُصبح هذا الأمر صعباً، ولكن يبقى هناك مَن يجد طرقاً متعددة للتحايل على القوانين”.
وتضيف أنه “مع الوقت وبسبب غياب السلطات الرقابية الفاعلة، تحوّلت البلديات إلى أداة تستخدمها المافيا نفسها لبسط سيطرتها والقيام بنوع من الضبط الاجتماعي، وهو ما نراه في أماكن كثيرة. على سبيل المثال، بلدية كبلدية الحدث تتخذ قرار منع بيع العقارات لغير المسلمين من دون أن تُساءل حتى”.
ضريبة “العداء للبيئة”
في مناطق انتشارها، تفرض الأحزاب المسيطرة على أصحاب الأعمال أن تشاركهم في أعمالهم، إذا كانت منتجة بشكل جيّد.
سامر (اسم مستعار)، صاحب مطعم في إحدى القرى الواقعة تحت نفوذ الحزب التقدّمي الاشتراكي، وطلب عدم نشر أي معلومة قد تدلّ على هويته، يقول لرصيف22: “عندما يقرر أي شخص إنشاء مشروع تجاري في الجبل، يبدأ أمنيو الحزب التقدمي الاشتراكي بالاستقصاء عنه وعن ميله السياسي، فإذا كان مناصراً يحاولون التقرب منه وجره بنقاشات لمعرفة رأيه برئيس الحزب وليد جنبلاط، وإذا كان معارضاً يحاولون تطويعه من خلال الإيحاء بأنهم سيقدّمون له الدعم وسيوجّهون المناصرين بالتعامل معه، شرط تقديم الطاعة للحزب”.
يلفت سامر إلى أن كثر من أصحاب المصالح يقدّمون الطاعة الحزبية في سبيل نجاح أعمالهم، مشيراً إلى أن مَن لا يرضخون تتم مقاطعتهم، أو بأحسن الأحوال تمنينهم بأنهم لا يقاطعونهم كرمى لأقربائهم الحزبيين.
عن نفسه، يروي أن “الحزب الاشتراكي تعامل معي وفق مبدأ المقاطعة، أولاً عبر توزيع تعميم عبر تطبيق واتساب يتوجه عبره للمناصرين بضرورة مقاطعة مجموعة من المطاعم من ضمنها مطعمي، بذريعة أنها تكنّ العداء للمختارة (مقرّ إقامة وليد جنبلاط)”.
وفي شكل آخر من المحاربة الاقتصادية، عمل الاشتراكيون على بث إشاعات عن أن مطعم سامر يقدّم أصنافاً رديئة وبأسعار باهظة. أما الشكل الجديد من التحريض على المقاطعة فتجلى “في بث إشاعة بأن مطعمي هو قاعدة معادية للمختارة ويتقاضى الأموال من السفارات الأجنبية”.
يؤكد سامر المؤيد لانتفاضة تشرين أن مقاطعة مطعمه لا تقتصر على مؤيدي الحزب التقدمي الاشتراكي، بل وصلت أيضاً إلى أنصار الحزب الديمقراطي اللبناني ورئيسه طلال إرسلان، وهؤلاء يسوّقون لفكرة أنه ينتمي إلى “الثورة المعادية للمقاومة”، أي حزب الله، حليف الإرسلانيين.
محظيون وغير محظيين
محمد (فضّل عدم الكشف عن اسمه) يمتلك متجراً لبيع الملابس في أحد أحياء ضواحي بيروت الجنوبية التي يسيطر عليها حزب الله. عام 2014، انقلبت أموره رأساً على عقب بعد زيارة أحد مسؤولي الحزب في المنطقة له وطلبه منه أن يسمح باستخدام بطاقة “نور”.
البطاقة المذكورة يمنحها حزب الله لمحازبيه وبعض أنصاره وتوفّر لحاملها حسومات في المتاجر والمطاعم. خلال الحديث مع محمد، أخبره المسؤول الحزبي أن الشرط الأساسي للتعامل ببطاقة نور هو أن يقدّم صاحب المتجر نصف أرباحه المتأتية من البيع بالبطاقة لحزب الله. رفَض محمد فما كان من المسؤول إلا أن قال له: “إذاً حاول الاسترزاق في هذه المنطقة إذا استطعت”.
عقب هذه الحادثة، تعرّض محمد لحملة تضييق على متجره بدأت بوضع حواجز إسمنتية أمامه وركن سيارات بشكل يمنع الزبائن من التوقف أمامه، إضافة إلى مقاطعة واضحة لمتجره خفّضت نسبة مبيعاته في ثلاثة أشهر بنسبة 85%.
يروي محمد أن كُل مَن قَبِلَ التعامل ببطاقة نور استطاع أن يُكمل في العمل بل ازدادت أرباحه كون حزب الله “يوجّه مناصريه إلى المحال التي تخضع لسلطته”، ويضيف: “أعرف شخصاً يمتلك محلاً مشابهاً لمتجري استطاع في فترة وجيزة أن يُكبّر مصلحته لتبلغ ضعف ما كانت عليه قبل قبوله ببطاقة نور”.
وتعتمد العديد من الأحزاب أسلوب الابتزاز مع أصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة. ويشير منير يونس إلى أن هذا الأمر يظهر من خلال قيام هذه الأحزاب في كثير من المناطق والأحزاب بطلب ما تسمّيه تبرّعات، وهي عبارة عن خوّات، من أصحاب هذه المؤسسات والمحال، ولا أحد يمكنه أن يرفض لأن ذلك يعني أنه يُعارض الحزب المسيطر ما يُعرّضه للتضييق والتهديد وغيرها من أساليب الترهيب، وبالتالي يوافق أصحاب المؤسسات على دفع التبرعات حتى لو كانوا من المعارضين للحزب المسيطر، من أجل الحفاظ على أرزاقهم.
يقول نعمة: “نحن اليوم في نظام مناهبة معمم، بدءاً من الأحزاب المسيطرة على التقسيمات السياسية الكبرى وصولاً إلى شبيحة الأحياء”، ويضيف أن الحرب الأهلية “جعلت قادة الميليشيات فاعلين اقتصاديين كباراً”، وكل فاعل سياسي قوي اليوم “يطمح لأن يكون فاعلاً اقتصادياً”.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع رصيف 22
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع New of News
Tags: economy, Electricity, monopolies, احتكار, اقتصاد, الكهرباء,